مَن يقارنون العلوم التجريبية بما يطلق عليه «العلوم الدينية» يظلمون الاثنين، فالمقارنة بين المجالين غير واردة وغير منطقية، ومَن يحاول الربط بينهما بتعسف ولوى ذراع هو كمَن يحاول أن يقيس بالكيلوجرام أو يزن بالكيلومتر، فهذا له معيار ومجال وطرق وأساليب وذاك له معيار وطرق وأساليب أخرى ومختلفة تماماً، ولا يعنى هذا الاختلاف أن هذا أفضل من ذاك، ولا يشير أبداً إلى أننا عندما نستخدم طريقة العلم فى تجربة شىء أننا نكره الدين أو نضمر له عداوة، فليس معنى أننى أقيس بشريط القياس أننى على خصام مع الميزان، المسألة فقط أننى أستخدم الأسلوب المناسب فى الظرف المناسب والموائم!، العلم التجريبى science واستقراء، أما العلم الدينى فهو knowledge واستنباط، ولكى أقرب المعنى، فالعلوم الدينية مثلها مثل تمرين الهندسة فى الرياضيات، عندما أتصدى لحل تمرين هندسة كل ما أفعله هو مجرد الاستنباط خطوة وراء خطوة من المعلومات المتوافرة أمامى فى تمرين الهندسة الثابت، الذى أُعطيت معلوماته مسبقاً دون مناقشة أو اختيار، وعندما أصل إلى الحل النهائى للتمرين وأنجح فيه وأحصل على الدرجة النهائية فإن هذا يعنى نجاحى فى استنباط الحل من الخطوات المترتبة على معلومات ومسلمات تمرين الهندسة الأصلى، لكن هل أنا ناقشت هذه المسلمات؟ هل أنا قلت عندما تصديت للحل: «لا، أنا أشك فى مصداقية الأرقام المكتوبة ومقادير زوايا المثلث؟!»، هل عندما يقول تمرين الهندسة إن الزاوية منفرجة.. هل من حقى أن أعترض وأقول مش عاجبنى أنا عايزها زاوية حادة؟! لا طبعا، لأن كل وظيفتى فى حالة تمرين الهندسة هى الاستنباط بتوالد وتراتب الأفكار وليس الاستقراء بالتجربة والملاحظة والفرضية والتفنيد والتكذيب كما فى العلم التجريبى، هذا هو الحال بالضبط فى العلوم الدينية، مثلاً فى علم الحديث- كما فى تمارين الهندسة فى الرياضيات- يظل المتخصص يستنبط صحة الحديث من مسلمات وضعها الأقدمون، وأعمدة راسخة شيدها الشراح الحافظون بدون مناقشة، المسلمات منها أن ذاكرة العرب حافظة لا تخطئ ناقلة لما قيل من 150 سنة الشخص تلو الآخر بدون أى هامش خطأ، وهو العمود الذى بُنى عليه وشُيد على أساسه علم السند، ومن المسلمات أيضاً أن الصحابى ليس من مرتبة البشر، فهو لا يخطئ ولا تتحكم فيه النوازع البشرية من ضعف أو مصلحة أو أنانية.. إلخ، ما عليك كمتخصص إلا أن تستنبط، لكن لا تناقش ولا تجادل يا أخى فى تلك المسلمات، لكن عزيزى المتخصص الذى يرفع فى وجوهنا فزاعة التخصص- وتقول لنا وتظن نفسك مفحماً لنا وتصرخ فى وجوهنا: «كما تذهب إلى الطبيب لكى تعالج والفيزيائى لكى تعرف نظرية والكيميائى لكى تفهم معادلة، لابد أن تذهب إلى محتكر الفهم الدينى لكى تفهم دينك»!! عزيزى المتخصص فى علم الحديث سنمشى معك إلى نهاية الطريق ونقول لك خلاص أنتم وعلماء التجريب فعلاً زى بعض، لكن لابد أن تقبل فرض وتطبيق أدوات العلم التجريبى على علمك، الذى تَدَّعِى أنه فى قوة ودرجة دقة الطب والفيزياء والكيمياء، هل ستقبل أن يقول لك العالم التجريبى: هات أدلتك التجريبية على أن ذاكرة العرب بهذه الدقة والإعجاز وأنها مختلفة عن ذاكرة العالم كله؟! أعطنى أبحاثك التى تدل على أنك لو نقلت معلومة من فرد أو جماعة إلى فرد بعده، ثم بعد بعده.. إلخ، فستحتفظ تلك المعلومة بدقتها ونصاعتها وعدم تحريفها؟! امنحنى أوراق مؤتمراتك العلمية التى تدل على أن المجتمع الشفاهى البدوى أكثر دقة وانضباطاً فى نقل المعلومات من المجتمع المدون؟! هل ترضى يا عالِم الحديث أن تتحمل ثقل ظل العلم التجريبى وغلاسته واقتحامه وتخطيه كل الخطوط الحمراء التى لا يعترف بها، لأنه لا خطوط حمراء عنده ولا مسلمات لديه، لسبب بسيط وهو أن العلم التجريبى وظيفته الأساسية هى خلخلة المسلمات!؟ هل ترضى بأسئلة من قبيل: لماذا لم يدون الحديث إلا بعد أكثر من مائة وخمسين سنة؟! وهل تاهت عن الصحابة هذه المهمة؟ لماذا الخلفاء الأربعة هم أقل المحدثين فى الصحيحين، ولماذا لا تصل الأحاديث المنسوبة إليهم إلى عشر معشار أبى هريرة؟! هل تقبل عزيزى المتخصص تطبيق علم الإحصاء على أحاديث أبى هريرة، ومعرفة كم حديث قاله فى الخليفة معاوية والأمويين الذين عاش فى كنفهم، وكم قال فى علىّ، الذى كان سبه على المنابر فرض عين فى زمن الأمويين؟! هل تقبل أن تهز مسلمة من المسلمات الأساسية بسرد قصص اختلافات الصحابة وحروب بعضهم بعضا، التى وصلت إلى حد الاقتتال، فيبرز السؤال العلمى المقلق: هل نعتبر هذا معياراً لجرح السند أم أن المعيار الوحيد أن الراوى صادق، لأن علماء الحديث القدامى قالوا عنه «صادق» وهذا يكفى؟! هل عندما نطبق معايير ومناهج علم التاريخ الحديث ونستخرج قصة ونعتبرها وثيقة تاريخية نبنى عليها أحكاماً فى قوة وصدق السند مثل قصة خلاف على بن أبى طالب مع ابن عباس حين اتهمه على- رضى الله عنه وكرم وجهه- بأنه سرق بيت المال وهرب؟! الكثير والكثير من الأسئلة التى يفرضها منهج العلم المتسائل المفند الجرىء، فهل ستتحملها عزيزى العالِم الأزهرى الجليل؟!